السيرة النبوية المقارنة- رؤى جديدة في دراسة وتحليل الكتابات السيرية.

المؤلف: د. عصام تليمة11.13.2025
السيرة النبوية المقارنة- رؤى جديدة في دراسة وتحليل الكتابات السيرية.

لم تحظ شخصية في عالم الكتابة بمثل هذا الفيض الغزير من العناية والتدوين مثل النبي محمد صلى الله عليه وسلم. فمنذ عهد صحابته الأجلاء وحتى الأجيال اللاحقة، تنوعت أساليب خدمة سيرته العطرة، وتفنن العلماء والكتاب في استعراض جوانبها المضيئة، كلٌّ حسب اهتمامه ومجال تخصصه.

لم يخلُ عصر من الكتابات التي تتناول جوانب مختلفة من سيرته الزكية، سواء تلك التي تعرضها بتفاصيلها الكاملة وتحقق في صحة الروايات، أو تلك التي تركز على مواقف معينة وتستخلص منها العبر والدروس. وقد صدرت هذه الكتابات عن قلوب محبة وعقول ناقدة على حد سواء، مما يدل على أن سيرته كانت وما زالت محط اهتمام الجميع، سواء المحبين أو المبغضين أو المنصفين المحايدين.

مساران رئيسيان في دراسة السيرة النبوية

تجلت دراسة السيرة النبوية في مسارين رئيسيين. المسار الأول يعنى بالسرد التاريخي، ويروي أحداث السيرة منذ ميلاده الشريف، بل وحتى ما قبل الميلاد، مع دراسة الظروف والأحوال التي كانت سائدة في ذلك العصر، وصولًا إلى وفاته وما تلاها من أحداث جسام.

ويندرج ضمن هذا المسار خطوط علمية متعددة، فمنهم من يجمع كل ما ورد في السيرة دون تمحيص للأسانيد، ومنهم من يجمع ويمحص ويدقق، ويثبت ما صح وينبه إلى ما لم يصح أو ضعف. وهناك خط آخر يركز على استخلاص الدروس والعبر والعظات من هذه السيرة، سواء كانت دروسًا عامة أو خاصة.

أما المسار الثاني لدراسة السيرة النبوية، فقد انطلق منذ القدم، وهو مسار يعنى بدراسة جانب معين من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم والتركيز عليه. وقد تجلى ذلك في التراث الإسلامي في كتب الشمائل النبوية والخصائص المحمدية، مثل كتب القاضي عياض والمقريزي وغيرهما.

وفي العصر الحديث، ازدهر هذا الجانب بشكل ملحوظ، فظهرت كتب متخصصة في موضوعات محددة في السيرة، كما رأينا في "عبقرية محمد" للعقاد، و"إنسانيات محمد" لخالد محمد خالد، و"نبي البر" للإبياري، و"نبي الإنسانية" لأحمد حسين، و"محمد رحمة الله للعالمين" ليوسف القرضاوي، و"محمد في حياته الخاصة" لنظمي لوقا، و"الرسول القائد" لمحمود شيت خطاب، و"رحمة للعالمين" للمنصوري الهندي. ولم يقتصر هذا الاهتمام على الكتاب المسلمين، بل نجد عند الغربيين كتابات متنوعة، تتراوح بين الإنصاف والتحامل.

منهج مبتكر في دراسة السيرة النبوية

يبقى هناك منهج لم يسلكه الكثيرون في تناول السيرة النبوية، بل أزعم أنه لم يحظ بالعناية الكافية إلا لدى قلة من الكتاب، وهو منهج لا يتعلق بالسيرة ذاتها فحسب، بل يتعلق بمن تناولوا السيرة من الكتاب والمؤلفين.

ويمكن أن نطلق على هذا المنهج اسم "السيرة النبوية المقارنة"، حيث يتم مقارنة تناول كل مؤلف لحدث معين في السيرة، مع الأخذ في الاعتبار ثقافة المؤلف ولغته الأدبية واستعداده النفسي والعقلي، مما يثمر إبداعات وإشراقات عظيمة قد تغيب عن القارئ عند قراءة السيرة بشكل منفرد في كتاب ضخم.

وكما أن الفقهاء لديهم فقه مقارن يقارنون فيه الأقوال والاستنباطات الفقهية والدوافع والأسباب والفلسفة الفقهية، وكما أن علماء التفسير يقارنون بين أقوال المفسرين في تأملاتهم وإبداعاتهم للقرآن الكريم، فإن إجراء مثل هذه الدراسات على مستوى كتاب السيرة النبوية سيثمر لونًا جديدًا يخدم السيرة النبوية ويبرز جوانبها المضيئة.

الكتاب والشعراء يركزون جل اهتمامهم على الأحداث الجسام في السيرة، كالمولد النبوي الشريف، والبعثة المباركة، والهجرة النبوية، والغزوات الكبرى، بينما يغفل الكثيرون عن تفاصيل دقيقة في السيرة، لكنها تحمل في طياتها دلالات ومعاني بالغة الأهمية والجدوى العلمية والإيمانية.

رؤية فريدة للبيومي

لا أعرف أحدًا بذل هذا الجهد سوى الدكتور محمد رجب البيومي رحمه الله، في مقال فريد تناول فيه زاوية مهمة في كتابة السيرة، وذلك في مقال بعنوان "من روائع السيرة النبوية: الرسول يبكي ولده إبراهيم"، والذي أدرجه في كتابه "في ميزان الإسلام". يتحدث المقال عن وفاة إبراهيم، ابن النبي صلى الله عليه وسلم من مارية القبطية، والذي توفي صغيرًا.

يرصد البيومي هذا الموقف في كتابات بعض الأدباء والمفكرين المعاصرين الذين عنوا بكتابة السيرة النبوية، ويختار أربعة من كبارهم وهم: عباس العقاد، وطه حسين، وأحمد حسن الزيات، ومحمد حسين هيكل.

على الرغم من أن هذا الحادث لا يستغرق في كتب السير أكثر من نصف صفحة، أو صفحة على الأكثر، إلا أن قريحة هؤلاء الأدباء أبدعت كتابات في غاية النفاسة، تنوعت في أسلوب التناول بناء على شخصية كل كاتب. فالعقاد يميل في أسلوبه إلى مخاطبة العقل أولًا ثم الوجدان، بينما طه حسين يميل إلى مخاطبة الوجدان أولًا ثم العقل. أما الزيات فقد استلهم من هذا الحدث عظة وعبرة لمواساة نفسه في فقد أحد أبنائه، في حين كان هيكل يميل في أسلوبه إلى السرد والتحليل بلغة أدبية فياضة.

برهان ساطع على الصدق النبوي

لو أن البيومي رحمه الله وسع دائرة البحث والمقارنة بين أدباء عصره في تناولهم لهذا الحدث كنموذج، لوجد عند الكاتب المصري القبطي الدكتور نظمي لوقا تناولًا مختلفًا عما قدمه الأربعة الذين استشهد بهم، مما يضيف بعدًا جديدًا إلى الموضوع. فقد استلهم لوقا من حادث وفاة ابن النبي صلى الله عليه وسلم، والذي تزامن مع كسوف للشمس، قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته". رأى لوقا في هذه العبارة دليلًا قاطعًا على صدق نبوة محمد، لأنه لو كان مدعيًا للنبوة لاستغل فرصة تقديس أسرته وأبنائه وصمت عن هذا الكلام، لكنه نبي حق، فرفض ذلك وصوب الخطأ ورد الأمر كله لله سبحانه وتعالى في إطار الظاهرة الكونية.

نماذج أخرى تدعم هذا الطرح

إذا تركنا النموذج الذي ساقه البيومي وانتقلنا إلى نماذج أخرى، فسنجد أمثلة لا حصر لها تبين أن كل فقيه أو أديب نظر إلى الحدث النبوي من زاوية مختلفة، وأن الجمع بين هذه النظرات يعطي صورة واضحة وكاملة عن النبوة.

ومن ذلك ما رأيناه من تأمل فقيه أديب ومفكر أديب، وهما يوسف القرضاوي وخالد محمد خالد، عندما نظر كل منهما إلى حديث نبوي شريف ونصه: "من قتل وزغًا في أول ضربة كتبت له مئة حسنة، وفي الثانية دون ذلك، وفي الثالثة دون ذلك". فنجد القرضاوي يعلل ذلك من منظور الفقيه فيقول: إن الحسنات في درجاتها من المئة لما دونها هي مكافأة على حسن التصويب، لأنه مطلوب من المسلم أن يكون ماهرًا حتى إذا ما واجه أعداءه كان لديه القدرة على إصابة الهدف.

بينما يرى خالد محمد خالد أن المكافأة بالحسنات هنا هي دعوة للرحمة، فإذا كان لا بد من قتل الوزغ فليكن القتل سريعًا لإنهاء معاناته، لأن تعدد الضربات يزيد من ألمه.

وإذا نظرنا مثلًا إلى خطبة الوداع التي ألقاها النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فسنجد أن كل واحد من كتاب السيرة النبوية قد عنون لها بعنوان مختلف، بحسب ما رآه قضية مركزية أو موضوعًا جوهريًا فيها، وفي تناول كل منهم لنصوصها وما حوته من تعاليم.

فإذا ذهبنا إلى الغزالي في "فقه السيرة" أو البوطي في "فقه السيرة"، أو الكتب التي تناولت حقوق الإنسان في الإسلام واتخذت من خطبة الوداع منطلقًا، فسنجد تأملات وإبداعات عندما توضع جنبًا إلى جنب ستكون أشبه بحبات عقد من اللؤلؤ كانت متناثرة، ورغم أهميتها في سياقها العلمي فإن جمعها في كل حدث منفرد يجمع إبداعات وتجليات هذه العقول والأقلام في الموضوع الواحد.

هذا المنهج الجديد في تناول السيرة النبوية، والذي أطلقنا عليه اسم "السيرة النبوية المقارنة"، يخدم السيرة في التقاط الدرر الكامنة في بطون الكتب، خاصة في الأحداث الفرعية أو غير المشهورة في السيرة.

فالكتاب والشعراء يركزون على الأحداث الكبرى في السيرة، كالمولد والبعثة والهجرة والغزوات الكبرى، بينما يغفل الكثيرون عن تفاصيل يسيرة في السيرة، لكنها تحمل دلالات ومعاني في غاية الأهمية والجدوى العلمية والإيمانية.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة